في الشتاء والجو بارد والرياح شديدة ، كان حمد متجهاً إلى شاطئ البحر الذي يبعد عن منطقته عدة كيلومترات وصل إلى الشاطئ يشتكي همومه ومشاكله للبحر . مكث ساعات يبوح له بما في داخله من هموم ، وفجأة وقف شاب خلفه فبادره حمد بالسؤال : * لماذا تقف خلفي أيها الشاب؟ ـ أقف خلفك منذ ما يقارب الساعة ولم تنتبه لوجودي فعرفت بأنك حزين ومهموم فقاطعه حمد : * اسمي حمد فما هو اسمك ؟ سار الشابان نحو الشارع وكل منهما يبوح للآخر بقصته . ـ سمعت نهاية قصتك ولكنه هل هي حقيقية ؟ لماذا يتغير الناس يوماً بعد يوم ؟ لماذا يخون الأخ أخاه ؟ والصديق صديقه ؟.. لماذا .. لماذا ؟!! * انني تأثرت وحزنت كثيراً لسماع قصتك . قال حمد :: أنا فخور جداً بمعرفتك ، لأن لا أحد لي في هذه الدنيا بعدما كان لي زوجة وطفل وبيت وأهل الآن لا أملك شيئاً سوى الجلوس على هذا الشاطئ الأمين . ـ أنا أيضاً ليس لي أهل ولا مكان ، مثلك يا صديقي ، أنتقل من مكان إلى مكان ، ومن بيت لبيت ، ومن صديق لآخر . وأكمل متنهداً ... كان لي أب وأم ، ولكن وبعد صمت أكمل ، لقد انفصلا منذ فترة طويلة ، وتركاني وحيداً بلا مأوى ، أتوه من شارع إلى شارع ومن فراغ إلى فراغ ، أبي تزوج بأخرى ورحل بعيداً ، ولا نعرف شيئاً عنه ، وتزوجت أمي ، وأخذ زوجها ينهرني إلى أن طردني من البيت . استمرا بالحديث في جو الشتاء البارد وهما يمشيان على رصيف الشارع ، في هذه اللحظات وقف شاب وسيم بسيارته إلى جانبهما ، وألقى عليهما تحية الإسلام ثم عرض عليهما المساعدة لأن الطقس بارد . ولأنهما قد تعبا من المشي فركبا معه سيارته وسألهما : * إلى أين تريدان أن أوصلكما ؟ حمد : اذهب بنا إلى أي مكان ، فلا يوجد لدينا مسكن سوى البحر ، والأفضل أن تعيدنا إلى شاطئ البحر . تعجب صاحب السيارة قائلاً : * شاطئ البحر في هذا الجو القارس .. ما قصتكما ؟! ـ قصتنا واحدة بعدما تقابلنا على الشاطئ وسمع كل منا قصة الآخر . وعرض عليهما الإقامة في شقته ما دام لا يوجد لديهما مسكن ، فرفضا عرضه في البداية ، لكنه طمأنهما بأن لا أحد يسكن معه . ذهب الثلاثة إلى شقة خالد ، وجلسوا يتسامرون مع بعضهم ، في هذه الأثناء سأل خالد أحد الشابين قائلاً : ـ أريد أن أسمع قصتك أيها الشاب . ـ قصتي قصة أي شاب انفصل والداه عنه ، وليس عن بعضهما فحسب ، من دون أن يعرفا عنه شيئاً ، سعيداً كان أم تعيساً ، هل أصابه مكروه ، وعانيت في هذه الدنيا ولكن ماذا أقول .. لقد فرض علي والداي نصيباً من الشقاء . خالد : يا لها من قصة محزنة ومؤلمة ، وأتمنى من الله أن يفرج عنك . أما الآخر فقصته بدايتها جميلة ، أما نهايتها فكئيبة حزينة .. قال : ـ تزوجت بفتاة أحببتها وأحبتني ، عشنا معاً أجمل وأحلى أيام العمر ، وعمري أنا تحديداً ، حملت ثمرة حبنا في أحشائها وفي شهرها التاسع تعبت تعباً شديداً ، وأدخلت المستشفى قبل ولادتها بأسبوع ، كانت اللحظات حينها من أسوأ لحظات عمري ، لم أذق طعم النوم والراحة ، أو السكينة والهدوء ، وفي ليلة ولادتها في المستشفى جاءت الممرضة إلى غرفة الانتظار وهي تقول : ـ مبروك عليك الطفل .. ولكن .. ولكن .. تعيـ .. ش أنت . وجن جنوني بهذا الخبر الذي قلب حياتي رأساً على عقب . أخذت الطفل إلى عناية أمي ، وبعد ثلاث سنوات اشتد الالحاح من أهلي على الزواج من فتاة لا أعرف شيئاً عنها ، فلم أجد الراحة ولا طعمها معها ولا شكلاً من أشكال السعادة على مدى سنة ونصف ولم تنجب خلالها وكنت واثقاً من عدم محبتها لي . وذات يوم كنت مناوباً في العمل ، وفي المساء شعرت بصداع شديد كاد يفتك برأسي ، استأذنت للاستراحة في المنزل بضع ساعات ثم العودة للعمل . ذهبت إلى المنزل ، وطرقت باب الغرفة لكنها لم تفتح بسرعة فصرخت بها ، وتأخرت كثيراً ، وحين فتحت الباب كان الارتباك بادياً عليها ، ونظراتها زائغة ، شعرت أن وراء ارتباكها أمراً خطيراً . خالد : يا لها من حكاية ، إن قصتيكما جعلتاني أعرف مدى العذاب الذي يصيب بعض الناس ، وأعود إلى نفسي ، وأكونها من جديد ، وأعترف بأني جبان ، وأناني لا أحب إلا نفسي ، أخرج كل يوم بمظهر لأتباهى أمام الناس ، نسيت أن أصلي من طين ، أخرج مع هذه ، وتلك ، ولا أفكر ، بواجباتي تجاه والدي وزوجتي وأولادي ، حتى العبادة ، لا أتذكرها إلا يوم الجمعة . قال حمد : قلوبنا صفحات بيضاء ، لكننا يوما بعد يوم نسودها بما نخطه عليها من أعمال سيئة . عندما كنت متزوجاً من الأولى ، كنت أصلي واذكر الله وأحمده على نعمه ، وبعد رحيلها نسيت أشياء كثيرة ، فقد كانت امرأة صالحة تحثني على الفضائل ، وختم كلامه قائلاً: ـ ما هو مصيرنا الآن ، ما هو مصيرنا ؟ وقال الآخر : عندما كنت في العاشرة من عمري ، كان أبي وأمي ، يحثانني على الصلاة ، ولكن بعدما انفصلا ، تهت في الشوارع ولم أجد أحداً بجانبي ، ولم أصل بعدها قط ، فما هو مصيرنا ؟!.